رفع الراية -من بعد نور الدين محمود- صلاح الدين الأيوبي وقد سار على خطى سلفه نور الدين، فقد ترسم المنهج الإسلامي والحل الإسلامي في تحطيم القوى الصليبية وتحرير الأرض المقدسة.
جاء صلاح الدين وقد وجد أن نور الدين قد هيأ الظروف المناسبة لاسترداد الأرض المقدسة فاستغلها أحسن استغلال وقطف ثمارها اليانعة بعد سنوات من حكمه.
ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب 532هـ - 1137م بقلعة تكريت وكان أبوه والياً عليها، دخل هو وأبوه وعمه في خدمة نور الدين محمود، وشارك عمه أسد الدين شيركوه في حملاته الثلاث على مصر، وولي الوزارة في مصر وعمره 32 سنة.
يوصف صلاح الدين بأنه كان حسن العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل، ويقوم الليل. وكان يحب سماع القرآن وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعة إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله. وكان حسن الظن بالله .كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه.
وكان صلاح الدين عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي، وكان كريماً. وكان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طاهر المجلس لا يذكر أحد بين يديه إلابخير، طاهر السمع...، طاهر اللسان، طاهر القلم فما كتب إيذاء لمسلم قط.
وكان شجاعاً شديد البأس والمواظبة على الجهاد عالي الهمة، قال يوماً وهو قرب عكا «في نفسي أنه متى ما يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت».
ومات صلاح الدين ولم يكن لديه من الأموال ما تجب فيه الزكاة، واستنفدت صدقة النفل جميع ما ملكه، ولم يخلف في خزائنه من الفضة والذهب إلا 47 درهماً ناصرية، وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة... عزم على الحج في السنة التي توفي فيها ولكنه تعوق بسبب ضيق ذات اليد وضيق الوقت(83).
صراع على خلافة نور الدين:
لما مات نور الدين بويع لابنه من بعده بالملك وهو الصالح إسماعيل، وكان صغيراً في الحادية عشرة من عمره، وجُعل أتابكه شمس الدين بن المقدم... «فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور.... وانتشرت الفواحش... وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين»(84) وعندما هاجم الفرنج المسلمين واجههم ابن المقدم عند بانياس لكنه ضعف عن مقاومتهم، فبذل لهم أموالاً جزيلة وهادنهم، كما خرجت أرض الجزيرة من ملك الصالح إسماعيل، كما استبعد الأمراء المتحكمون في الصالح بني الداية وسجنوهم وهم من أقرب الأمراء المقربين إلى نور الدين (شمس الدين بن الداية ومجد الدين بن الداية رضيع نور الدين...) وكان كل ما سبق سبباً في غضب صلاح الدين على الأمراء المتحكمين في الملك الصالح، بل واعتبر نفسه أحق الناس بالإشراف على تربية وخدمة الملك الصالح(85).
وهكذا فتحت أنظمة الحكم الوراثي، وانعدام المؤسسات «الدستورية» الشورية، والتنازع على السلطة وحب الرئاسة...، فتحت المجال أمام مرحلة جديدة من الصراع والخلاف بين المسلمين أخرت المعركة الفاصلة التي كان يعد لها نور الدين. واضطرت صلاح الدين أن يخوض معركة الوحدة من جديد ولم يتم له ذلك إلا بعد أكثر من 12 سنة.
ففي ربيع الأول 570 هـ -نوفمبر 1174م ضم صلاح الدين دمشق سلماً، ثم ضم حمص دون قلعتها في 10 ديسمبر 1174، ثم ملك حماة وقلعتها 28 ديسمبر 1174، ثم عاد فسيطر على قلعة حمص، ثم استولى على بعلبك في رمضان من نفس العام فصار أكثر الشام بيده، وكان صلاح الدين طوال ذلك الوقت محافظاً على ولائه الظاهر للصالح بن نور الدين والدعوة له في المساجد وسك العملة باسمه، ولكن بعد أن وقعت معركة بين صلاح الدين من جهة وبين جند حلب والموصل الزنكيين من جهة أخرى وانتصر فيها صلاح الدين، قطع حينئذ صلاح الدين الخطبة وسك العملة للملك الصالح، وتسمَّى هو بملك مصر والشام وأقره الخليفة على ذلك. ثم استولى صلاح الدين في نفس العام (570هـ) على قلعة بعرين(86).
وفي السنة التالية 570هـ استولى صلاح الدين على بزاعة ومنبج وإعزاز(87)، وفي 577هـ توفي الملك الصالح إسماعيل في حلب ولم يكمل العشرين عاماً(88)، وفي 578هـ عبر صلاح الدين الفرات وملك منطقة الجزيرة (الرها - حران - الرقة...) وملك سنجار(89)، وفي 579هـ ملك صلاح الدين آمد وتل خالد وعينتاب(90)، وملك حلب في صفر من نفس العام حيث نزل عنها عماد الدين بن مودود بن زنكي مقابل سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج، وبملك صلاح الدين حلب -بعد حصارها مرات عديدة- «استقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلاً فثبت قدمه بتسلمها...»(91)،كما فتح صلاح الدين قلعة حارم(92). وفي سنة 581هـ ملك صلاح الدين ميافارقين، واستلم شهرزور وولاية القرابلي وجميع ما وراء نهر الزاب(93). وأخيراً دخلت الموصل وما يتبعها في حكم صلاح الدين في 582هـ - 1186م(94).
استمرار الجهاد:
ولم تخل هذه المرحلة 569-582هـ، 1174-1186م من معارك عنيفة(95) مع الصليبيين أسهمت في المحافظة على هيبة المسلمين، والتعرف على إمكانات العدو ونقاط ضعفه، واستدراك جوانب النقص عند المسلمين، وعدم إعطاء العدو فرصة للتقوِّي والتمدد والانتشار، إلا أن صلاح الدين لم يدخل في معركة فاصلة مع الصليبيين.
ونمر هنا على أهم الوقائع مع الصليبيين في تلك الفترة، ففي سنة 570هـ هزم المسلمون الأسطول الصليبي القادم من صقلية والذي هاجم الإسكندرية بخمسين ألف رجل هزيمة كبيرة(96). وفي 573هـ هاجم صلاح الدين الفرنج من جهة مصر حتى وصل عسقلان وفتحها وأسر وقتل وأحرق، ثم انساح جند صلاح الدين لما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكر وسار صلاح الدين للرملة وهناك فاجأهم الفرنج وهزموهم ورجع صلاح الدين في نفر يسير ومشقّة شديدة(97)، وكان درساً قاسياً له. وفي نفس العام حاصر الفرنج حماة وحارم وفشلوا، وهزم الفرنج في العام التالي عند حماه(98). وفي 575هـ أغار صلاح الدين على مناطق سيطرة الفرنج وخرب الحصن الذي أقاموه بمخاضة الأحزان قرب بانياس، ووقعت معركة شديدة انتصر فيها المسلمون ونجا ملك الفرنج وأسر عدد من قادتهم: ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس وهو أعظم الفرنج محلاً عند الملك، وأسر أخوه صاحب جبيل، كما أُسر صاحب طبرية ومقدم الداوية وصاحب جنين(99).
وفي 578هـ قام صلاح الدين بغارات على أطراف مناطق سيطرة الفرنج مُركِّزاً على الشوبك والكرك، وفتح المسلمون الشقيف من أعمال طبرية على يد فرخشاه (والي دمشق)، واقتحم فرخشاه بيسان وغنم ما فيها، وسارت العرب فأغارت على جنين واللجون حتى قاربوا عكا(100). وفي نفس العام هزم أسطول صلاح الدين الأسطول الذي سيره أرناط (رونالد دي شاتيون) حاكم الكرك في البحر الأحمر للتخريب في سواحل المسلمين ومهاجمة مكة والمدينة...، وأرسل بعض أسرى الفرنج إلى منى لينحروا عقوبة لمن رام إخافة حرم الله(101).
وفي 579هـ عبر صلاح الدين نهر الأردن في 19 جمادى الآخرة فقصد بيسان وأحرقها وخربها «وأغار المسلمون على تلك الأعمال يميناً وشمالاً ووصلوا فيها إلى مالم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه». كما غزا صلاح الدين الكرك، وعاد فحاصرها في السنة التالية دون جدوى ثم سار (580هـ) إلى نابلس ونهب كل ما على طريقه من البلاد فلما وصل نابلس أحرقها وخربها وقتل فيها وسبى وأسر، وسار إلى سبسطية فاستنقذ جماعة من أسرى المسلمين، ووصل إلى جنين فنهبها وخربها وعاد إلى دمشق وهو يبث السرايا عن يمينه وشماله يغنمون ويخربون أملاك الفرنج(102).
وفي سنة 582هـ مات ملك الفرنج في بيت المقدس وتولى مكانه طفل صغير وحدث خلاف وطمع في السلطة بين الفرنج جعل صاحب طرابلس يراسل صلاح الدين ويتحالف معه ضد أقرانه من الفرنج. وفي السنة نفسها غدر صاحب الكرك أرناط بقافلة عظيمة للمسلمين فأخذها عن آخرها وغنمها، ولم يستجب لطلب صلاح الدين ووعيده بإطلاقها، فأقسم صلاح الدين ليقتلنه إن ظفر به(103).
وهكذا دخلت سنة 583هـ وقد نضجت ظروف الإعداد للمعركة الفاصلة من توحيد لقوى المسلمين، ومن كسر لهيبة الصليبيين وخبرة أوسع في فن التعامل معهم، وبهذا دخل صلاح الدين معركة حطين. وقبل الإشارة إلى معركة حطين نقف قليلاً عند استرتيجية العمل لدى صلاح الدين.
استراتيجية العمل والإعداد لدى صلاح الدين:
1- الان طلاق من قاعدة قوية ومأمونة:
وتمثل ذلك في إعادة الوحدة وتقويتها، وبناء الإنسان المسلم المقاتل، وبناء الاقتصاد الحربي.
2- بناء المجتمع للحرب:
وفي هذا حرص على إشاعة العدل وإزالة الأحقاد بين إمارات المسلمين وتوجيه العداء ضد الصليبيين. كما أقام الصناعات الحربية من دور صناعة سفن وتنظيم الحصون وحمايتها وتجهيزات الحصار...
3- وضوح الهدف:
الذي تمثل بقيادة الأمة الإسلامية لطرد الصليبيين. وهذا الوضوح ساعد على كفاءة الأداء والإعداد فكان «يبذل أقل جهد لأفضل نتيجة»، كما ساعد على تحديد أهداف العمليات العسكرية فكانت الأولوية للتحرير، وحددت السياسات على هذا الأساس.
4- الحرص على المسلمين:
فهو «يحرص على المسلمين لتحقيق هدف الحرب، ويحرص على الحرب للمحافظة على المسلمين»، وقد اعتاد على رد العدوان بأقوى منه حفاظاً على الروح المعنوية، وتبني الاستعداد القتالي المستمر، وحدد لكل عملية أساليبها المناسبة(104).
بالإضافة إلى هذه الاستراتيجيات الأساسية فقد تبنى صلاح الدين في معاركه استراتيجية الهجوم غير المباشر مثل القيام بمسيرات طويلة وهجمات مباغتة، والهجوم على جهة لتخفيف الضغط على جهة أخرى. واستراتيجية الحرب التشتيتية كتشتيت الجيش المعادي داخل المعركة (فصل الفرسان عن المشاة مثلاً)، واستغلال النزاعات السياسية وضرب فريق بآخر وتحييد الأعداء. واستراتيجية الهجمات الوقائية التي تضعف قدرة العدو القتالية قبل هجومه أو استكمال استعداده(105).
وحقق صلاح الدين في حروبه المبادئ الأساسية للحرب بكفاءة كبيرة مثل:
- مبدأ المباغتة.
- مبدأ أمن العمل: بما تمثل له من شبكة أمنية جاسوسية قوية ودقيقة.
- مبدأ القدرة الحركية: بما تعنيه من سرعة تحرك الجيش وتجمعه وانتقاله.
- مبدأ المبادأة والقوة الهجومية: الذي تمثل بتحويل الروح الدفاعية إلى هجومية.
- مبدأ الاقتصاد بالقوى: فلكل معركة ما يناسبها.
- مبدأ المحافظة على الهدف: فكان يهتم بتدمير القوى البشرية للصليبيين بالدرجة الأولى، وحرمانهم من مواردهم الاقتصادية وتحويلهم إلى عبء على الغرب، وتحرير الأرض من الداخل باتجاه الساحل.
وبالنسبة للجيش الإسلامي فإن صلاح الدين رسخ الاستعدد الدائم للقتال، ورفع الروح الإيمانية والجهادية في النفوس، كما نمى الكفاءة البدنية الجسدية، وأكد على الانضباط وكمال الطاعة (في غير معصية)(106).
معركة حطين:
جهز صلاح الدين جيشه للمعركة الفاصلة وكانوا 12 ألف مقاتل نظامي سوى المتطوعة وجهز الفرنج أنفسهم وتصالحوا وتجمعت ملوكهم وجيوشهم، وكونوا جيشاً من حوالي 63 ألف مقاتل.
اجتاز صلاح الدين نهر الأردن، وفتح طبرية بدون قلعتها، وبدأت المناوشات يوم الجمعة إلا أن المعركة احتدمت يوم السبت 24 ربيع الآخر 583هـ - 4 يوليو 1187م، وعانى الفرنج من الحر والعطش، وحصرهم المسلمون وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم «فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال»، ثم أمر السلطان بالتكبير وبالحملة الصادقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج فقتلوا منهم ثلاثين ألفاً وأسروا ثلاثين ألفاً، وكان فيمن أسر جميع ملوكهم سوى أمير طرابلس «ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودفع الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين»(107).
ووقع في الأسر الملك جاي ملك بيت المقدس وأخوه، وأرناط حاكم الكرك الذي قتله صلاح الدين بيده براً بيمينه لغدره وإيذائه المسلمين، وأسروا صاحب جبيل وابن هنفرى، ومقدم الداوية، وجماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية وقد أعدم المسلمون الداوية والاسبتارية لشدة نكايتهم في المسلمين(108).
هذه هي وقعة حطين، وهي إحدى المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي وتاريخ فلسطين، بات المسلمون ليلتها يكثرون من التكبير والتهليل، وانتهت بسجود صلاح الدين لله شكراً مع سقوط خيمة ملك الفرنج وأسره(109).
وبعد هذه المعركة فتحت الطريق أمام المسلمين لتحرير معظم أرجاء فلسطين فخلال أيام قليلة تم فتح طبرية ثم عكا (10 يوليو)، ثم الناصرة وصفورية، ثم قيسارية وحيفا وأرسوف، ثم نابلس، ثم الفولة ودبورية وجنين وزعين والطور واللجون وبيسان وجميع ما يتبع طبرية وعكا، وتم فتح يافا. ثم اتجه المسلمون شمالاً ففتحوا حصن تبنين، ثم صيدا (29 يوليو)، ثم بيروت (6 أغسطس)، وجبيل. ثم اتجهوا جنوباً لاستكمال فتوح فلسطين ففتحوا الرملة ويبنه وبيت لحم والخليل، ثم عسقلان (4 سبتمبر)، وغزة والداروم، وأقام صلاح الدين بعسقلان حتى تسلم حصون الداوية في غزة والنطرون وبيت جبريل... وغيرها(110). وقد تمَّ ذلك كله لصلاح الدين في شهرين تقريباً وبعضها كان يحتاج إلى سنين من الحصار لاقتحامه وكان جملة ما فتح «خمسين بلداً كباراً كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة»(111).
تحرير بيت المقدس:
وتطلعت الأنظار إلى القدس فأعد صلاح الدين عدته وبدأ حصارها في منتصف رجب 583هـ -20 سبتمبر 1187م، وكان داخل القدس حوالي ستين ألف مقاتل صليبي كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها. وخلال أيام حصارها جرت صدامات عديدة وحاول المسلمون اقتحامها واقتتلوا «أشد قتال رآه الناس، وكل واحد من الفريقين يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني»(112). وطلب الفرنج الأمان مقابل تسليم المدينة فرفض صلاح الدين إلا أن يفعل بهم كما فعلوا بالمسلمين عندما احتلوها قبل حوالي تسعين عاماً، ثم عادوا وطلبوا الأمان وهددوا إن لم يعطوه أن يقتلوا أسرى المسلمين وهم ألوف، ثم يقومون بقتل نسائهم وذراريهم من النصارى ويحرقون ويعطبون أموالهم، ويقتلون حيواناتهم، ويخربون الصخرة والأقصى، ثم يخرجون ليقاتلوا حتى النهاية قتال المستميت. وشاور صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على الإشارة بالأمان، فأمنهم صلاح الدين. وتم للمسلمين فتح القدس في 27 رجب 583هـ-2 أكتوبر 1187. وظهر من تسامح ورحمة صلاح الدين الكثير مما اعترف به الصليبيون أنفسهم(113).
وهكذا عادت بيت المقدس لتحكم براية الإسلام بعد 91 سنة هجرية (88سنة ميلادية)، وأعيد للمسجد الأقصى بهاؤه ونضارته، وعاد صوت الآذان يصدح في جنباته، وتم إحضار المنبر الذي أعده نور الدين للمسجد الأقصى قبل فتحها بعشرين سنة(114).
ومن المهم الإشارة إلى أن صلاح الدين تابع فتح المدن والقلاع الصليبية الأخرى، ففتح سنة 584هـ جبلة واللاذقية وقلعة صهيون، وفتح حصن بكاس والشغر وسرمينية وبرزية ودرب ساك وبغراس(115). كما فتح الكرك وما يجاورها كالشوبك بعد طول حصار بالأمان «وفرغ القلب من تلك الناحية وألقى الإسلام هناك جرانه وأمنت قلوب من كان في ذلك الصقع من البلاد كالقدس وغيره، فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين ومن شرهم مشفقين». وفتح صلاح الدين صفد بالأمان بعد حصار وخرج الفرنج إلى صور «وكفى الله المؤمنين شرهم فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية»(116)، كما فتح كوكب. وفي ربيع الأول 585هـ فتح صلاح الدين شقيف أرنوم وهي من أمنع الحصون(117).
وهكذا، عادت أرض فلسطين لتحكم تحت راية الإسلام من جديد. ولكن ربيع الانتصارات لم يدم طويلاً فانفتحت صفحة جديدة من الصراع والتحدي.